عيادة د.وافي ( قصة قصيرة ) / بقلم د.أنور سعيد القبالي

.

عيادة د.وافي

بقلم د.أنور سعيد القبالي 

 

جلس وليد بجسده الهزيل على حافة الرصيف الواقعة أمام عيادة  د. رؤوف، وكان يحاول حماية وجهه الشاحب من أشعة الشمس بملف مليء بالأوراق، كانت المارة تسير من خلفه، والسيارات المسرعة على الطريق العام من أمامه،ولكنه لم يكن يشعر بوجودهم البتة، حتى إنه لم يكد يسمع صوتهم على الإطلاق، تنازل عن حماية وجهه من أشعة الشمس بذلك الملف الذي يحمله بيده، وأخذ يقلب الأوراق الموجودة في داخله ورقة تلو الأخرى؛

عيادة د. فؤاد شوقي اختصاصي أمراض الجهاز الهضمي،

التشخيص: يشتكي المريض وليد مصطفى من آلام متكررة في منطقة المعدة والقولون، ويصف الألم على شكل نوبات من مغص شديد، وهو ألم متنقل مختلف في النوع والحدة،حيث إنه ينتابه في حين أسفل منطقة الحجاب الحاجز،وأحيانًا أخرى في منتصف الصدر على شكل وخزات حارقة متوسطة إلى حادة، ويصاحب ذلك الألم صداع شديد في الشق الأيمن من الرأس.

وبعد إجراء الفحوصات السريرية والمخبرية للمريض تبين لدينا أنه مصاب بجرثومة المعدة وقررنا إعطاءه علاج الجرثومة الثلاثي لمدة 14 يومًا، ومسكنات لعلاج الصداع.

أعاد وليد الورقة في الملف، وأخذ ورقة أخرى كُتِب عليها؛

عيادة د. ممدوح حسين؛ استشاري جهاز هضمي .

التشخيص:

بعد الاطلاع على ملف المريض، وإجراء الفحوصاتاللازمة، تبين أنه وبالرغم من استكمال المريض للعلاج الثلاثي لا زال يعاني من الآلام نفسها، لذلك قررنا القيام بعملية تنظير للمعدة، وبعد القيام بالعملية اتضح لنا أن المريض لا يعاني من أية تقرحات في المعدة وقررنا تحويله إلى قسم الكلى والمسالك البولية بعد شكوى المريض من الشعور بضغط أسفل الحوض، وحاجته إلى التبول الليلي المتكرر.

 

 

 

انتشل ورقة ثالثة:

د. عادل عمر

استشاري أمراض الكلى والمسالك البولية،

التشخيص: بعد مراجعة ملف المريض، والقيام بعمل الفحوصات اللازمة،

تبين أن المريض مصاب بالتهاب حاد في المسالك البولية،وقررنا إعطاءه مضادًا حيويًا Ciprofloxacin ....

و استمر بتقليب الأوراق واحدة تلو الأخرى،

طبيب طوارئ …. استشاري أمراض القلب والأوعية الدموية …. استشاري مخ وأعصاب … استشاري غدد صماء وسكري ... … 

وتوقف لوهلة عندما سقطت من الملف ورقة ملاحظات صغيرة صفراء اللون،  كُتِب عليها بخط اليد؛

د. وافي؛ استشاري الأمراض النفسية، الشارع الأول، حي البلاد.

في تلك اللحظة قطب حاجبيه وهمهم:  

لم يبقَ طبيب في هذه المدينة إلا وقمت بزيارته!

ولا زالت تلك الآلام تلازمني!

والآن وبعد فشل أولئك الأطباء في علاجي يدفعون بي إلىطبيب نفسي؟

هل أنا مجنون؟ وما حاجتي للطبيب النفسي؟

أنا أصلًا أعيش بين المئات منهم ...!

فكلما خالفت شخصًا في الرأي، يقول لي بكل ثقة: أنت مريض نفسي! 

يا له من تشخيص مجاني لحظي دون الحاجة لإضاعة الوقت في زيارة العيادات النفسية ودون دفع فلس واحد!

وأردف وهو يلوي فمه باستهزاء: يا للعجب!

 

ثم قام من مكانه مترنحًا، وأشار بيده لسيارة أجرة، وانطلق متجهًا إلى منزله.

لم يكن وليد ينوي زيارة عيادة طب نفسي، رغم نصيحة الأطباء المتكررة له بذلك، ولكن الآلام التي حاصرته من كل جانب في تلك الليلة، جعلته في الصباح التالي ينطلق مسرعًا لعيادة د. وافي استشاري الأمراض النفسية!

قال د. وافي: سيد وليد، بعد انتهائنا من تشخيص حالتك،تبين لي أن سبب ألمك واضح ومصدره غير عضوي ... دعني أشرح لك ذلك،

بعد إجراء الفحوصات الأولية؛ اتضح لي أن لديك تضخمًافي غدة الطيبة،  ويحدث ذلك بسبب تلقيك جرعات زائدة من القهر والكبت، وبعد الاطلاع على الفحص المخبري لعينات الدم لاحظت ارتفاع مستوى التوقعات لديك في الناس من حولك، ويعود ذلك إلى ثقتك المفرطة بهم، وبناءً على الفحص السريري وصور الأشعة تبين لي أنك تأخذ شهيقًا واحدًا بين كل ٣ إلى ٤ زفرات؛ مما أدى إلى ضعف عضلات العطاء لديك.

ولكن لا داعي للقلق، بإمكاني تخليصك من ألمك بسهولة،باستئصال غدة الطيبة لديك.

أو يمكننا استبدالها ، ولكن يجب أن تعلم أنه لا يمكننااستبدال غدة الطيبة المتضخمة بأخرى من النوع الطيب السليم، فأنا لا أضمن نجاح الأمر على المدى البعيد، فقد تتضخم مرة أخرى، ويفتك بك الألم من جديد، ومن ناحية أخرى، فإن غدد الطيبة السليمة نادرة جدًا، لذلك يمكننا زراعة غدة من النوع اللئيم بدلاً منها ؛ فهذا النوع نجاحهفي زوال ألمك الحالي شبه مضمون، ويتوافر لدينا الكثير منها في بنك الغدد.

 

وبطبيعة الحال سيساعدك الاستئصال في أخذ أنفاس بشكل أكبر من إخراجها، فتأخذ الكثير وتعطي القليل، وأخيرًا نعطيك عقارًا مضادًا للثقة الزائدة فيمن حولك،وآخر لعلاج ارتفاع مستوى التوقعات بهم، فتتخلص من ألمك بشكل تام.

هل يناسبك ذلك؟

خلال تلك اللحظات من حديث الطبيب، كان وليد محدقًا في لوحة معلقة على الجدار خلف مكتب د.وافي، لوحة ذات إطار خشبي مزخرف كتب بداخلها بخط عثماني ذهبي  مطرز على قماش مخملي أسود؛ قوله تعالى: (مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ۗ ) (آل عمران 179).

(وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَىٰ صِرَاطِ الْحَمِيدِ)(الحج 24).

(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) (الأنفال 37)

(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ ۙ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))النحل 32)

أجاب وليد بعد أن أفاق من رحلته بين تلك الآيات العظيمة:

أشكرك دكتور، أعطني عقارًا مضادًا للثقة الزائدة، وآخر لخفض مستوى التوقعات، وما تبقى من ألم أُفضِّل أن أتعايش معه دون استئصال الغدد أو استبدالها.

قال د. وافي وهو يكتب في الوصفة الطبية: خيارٌ موفق!

قال وليد بشيء من التردد والخجل:  دكتور هل أبدو لكشخصًا أحمق!

 ابتسم د. وافي وقال:

لماذا هذا التساؤل يا وليد؟

رد وليد: هذا ما يقوله لي الكثير من الناس من حولي!

قام د. وافي من على كرسيه، واتجه إلى وليد، وقال وهو يربت على كتفه: أنت لست أحمق يا وليد. عليك فقط أن تتوقف عن جلد الذات، لأن الاستمرار في جلدك لذاتك يؤديإلى احتقارك لنفسك، ووضعها في غير موضعها السليم، واحتقارك لنفسك هو بوابة دخول مجانية لمن يتحين الفرصة لاحتقارك، إن محاسبة الإنسان لنفسه أمر جيد لكي يتلافى أخطاء الماضي، وما الماضي إلا مدرسة لمن أراد أن يتعلم،أما جلد الذات فيحول مدرسة الماضي إلى سجن تحبس فيه تألقك وحماسك وإبداعك. عليك أن تدرك  أن الثقة بخالقك ثم بنفسك تمثل جهاز المناعة النفسية لديك؛ فعليكأن تحذر من آراء الناس من حولك، فقد تكون في أغلب الأحيان سمومًا تفتك بك، وتضعف من جهاز المناعة النفسية لديك، بل يجب عليك أن تتعامل مع تلك الآراء كمطاعيم تعزز بها مناعتك ضد الأمراض النفسية. 

لتعلم يا وليد أن الأمراض النفسية  أشد فتكًا من الطاعون،ولكن هناك فرق شاسع في طريقة انتقال تلك الأمراض بين البشر، فالطاعون ينتقل لك بشكل إجباري عند الاتصالالمباشر بشخص مصاب به، أما الأمراض النفسية كالخبثوالحقد- على سبيل المثال- ما كانت يومًا جبرية الانتقال بالاتصال المباشر مع الشخص الخبيث أو الحقود، فلاشك أنك في هذه الحال تتمتع برفاهية الاختيار ما بين قبول العدوى أو رفضها. ومن ناحية أخرى، عليك أن تدرك أن سلوك الأفراد هو سلوك نسبي، والمشاعر الإنسانية نسبية،فمهما وصفت لشخص ما مدى ألمك أو سعادتك لن يستطيع أن  يشعر بها كما تشعر بها في داخلك، وبناءً على تلك المشاعر تُبنى التصرفات الفردية للبشر.

نظر وليد نظرة حائرة للدكتور وافي وقال:

لم أفهم ما تقصده بالمشاعر النسبية بالتحديد دكتور، هل لك أن توضح لي الأمر؟

 

سأضرب لك مثالًا للتوضيح؛ قال د. وافي:

 

لنفترض أن والدًا قُتل ولده عامدًا متعمدًا، وقبل تنفيذ القصاص ببضع دقائق، وقف والد المغدور، وقال عفوت عن قاتل ابني لوجه الله سبحانه وتعالى.

هنا شعر الوالد أن سعادة العفو عن قاتل ابنه طلبا لرضىالله سبحانه وتعالى تفوق نشوة القصاص من القاتل.

ولا شك أن ما فعله هذا الأب أمر مباح، بل وله أجر عظيم عند الله سبحانه وتعالى.

و في الوقت نفسه كان هناك قصاص آخر لوالدٍ قُتل ابنهعامدًا متعمدًا أيضًا، ولكن في هذه المرة اختار الوالد أن يرى قاتل ابنه يُقتل؛ حتى يشعر بالارتياح ويتلذذ بنشوة الانتقام، وهذا الأمر مباح بلا أدنى شك.

نلاحظ فيما ذكرته لك أن المشاعر نسبية، وبناءً عليها -ولاسيما على القناعات- تصدر القرارات.

وبالتأكيد ستسمع حشد الجماهير المحيطة بالوالد الأول وقت العفو يتهامسون: يا له من حكيم! يا له من طيب! يا لهمن أحمق كيف يعفو عن قاتل ابنه؟! لا بد أنه حصل على مبلغ طائل من المال، يا له من منافق! ...

أما الحشد حول الوالد الآخر فيتهامسون: يا له من حكيم!يا له من قوي! يا له من غبي لقد رفض مبلغًا كبيرًا من المال! يا له من خاسر! لو عفا عن القاتل لنال أجرًا عظيمًا...  

بالمحصلة يا وليد

من لا يدرك قناعات الطيب ومرجعيته الإيمانية والأخلاقيةفي اتخاذ القرارات، سينعته بالأحمق، بالرغم من أنه قد يكون حكيمًا في تلك اللحظة.

ألم تسمع يا وليد بنظرية  الحكيم والغبي والمتغابي؟

رد وليد بخجل: لا، لم أسمع بها من قبل.

قال د. وافي: إن الشخص الغبي هو من يهجر الشكوكويركن للثقة العمياء، وأقصد هنا بالشكوك؛ أي الشكوك المعرفية وليست الشكوك التي تؤدي لسوء الظن. وأنت يا وليد  سبب  ألمك الرئيس هو شكك في طبيعة الأحداثوالسلوكيات البشرية من حولك، وعدم ملاءمتها لشخصيتكالطيبة ومشاعرك النبيلة ومرجعيتك الدينية، فأنت لا تقع ضمن دائرة الغباء.

أما المُتغابي فهو ذلك الشخص الخبيث الذي يمتلك مستويات عالية من الذكاء السلبي الخفي عن محيطه،ويعتبر العدو الأكثر خطرًا على الأغبياء والطيبين.

ومن ناحية أخرى، فالحكيم هو شخص يمتلك مستويات عالية من الذكاء الإيجابي النقي من أي شوائب نفسية،فيلتفت إلى جوهر الأحداث، ويترفع عن التفاهات، ويستطيع تفنيد المرجعيات النفسية عند تحليل الأحداث، فعندما يتنازل الطيب عن حقه أو يغفل عنه، ينعته الحكيم بالطيبويصفه الخبيث بالأحمق أو المغفل؛ لذلك فإن الحكيم  يحاول جاهدًا زرع الشكوك المعرفية الإيجابية في الغبي لإنقاذه من الغرق في بحر الجهل، ويرفق بالطيب ويحاول انتشاله من براثن نار الغفلة، ويعتبر الحكيم العدو الأخطر علىالمتغابي؛ ذلك أنه الوحيد القادر على اصطياده، وكشف مخططاته .

ولكن من المهم أن تعلم أن كونك شخصًا طيبًا لا يبرر على الإطلاق أن تكون مغفلًا .

تساءل وليد: ولكن متى يكون الطيب مغفلًا؟

ـ أجاب د. وافي: عندما يتخذ القرارات دون فهم وتحليل عميق للأشخاص والأحداث من حوله، ذلك أن الطيبة هي البطاقة التي تؤهلك للصعود على سلم معرفة الحق؛ حتى ترتقي بك لأعلى مستويات المعرفة ألا وهي الحكمة، وقد تكون الأغلال التي تجرك إلى أسفل سافلين إن اقترنت بالجهل، فتهوي من الطيبة إلى الغفلة، وغفلة تلو الأخرىحتى تصل إلى مرحلة الغباء التي تودي بك إلى التنازل عن القيم والمبادئ والأخلاق، فتكون أخًا للجهل، وفي تلك المرحلة تكون مؤهلًا للوصول إلى اكتساب الذكاء السلبي،والوصول إلى أدنى مراتب البشرية، ألا وهي التغابي أيالخبث.

 

قال تعالى: ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) (البقرة 269)

ولكن دكتور هل الذكاء السلبي يعتبر ذكاءً؟

قال د. وافي: سؤال مثير للإعجاب يا وليد !

الذكاء السلبي هو ذكاء في الأسلوب للوصول إلى غاية باطلة، ومن كانت غايته الباطل فهو شخص في قمة الغباء الفكري بلا أدنى شك،

فما بُني على غاية باطلة انتهى بباطل، وذكاء الأسلوب لا يبرر تلك الغاية بأي شكل من الأشكال؛ لذلك فإن الذكاء السلبي هو ذكاء بُني على غباء، وما بني على غباء فهو غباء محض في محصلته.

ـ تساءل وليد: إذن، ما السبيل إلى الحفاظ على القيم والأخلاق؟ وكيف نصل للسعادة؟

قال د. وافي: السعادة ليست مفهومًا ثابتًا، ولكنها مفهوم مطلق يعتمد على الغاية، فبناءً على غايتك تصل لسعادتك.

- ما غايتك في هذه الحياة يا وليد؟

- غايتي، أن أعيش بسعادة .

- السعادة الأبدية أم المؤقتة؟

- السعادة الأبدية بلا شك!

قال د.وافي:

السعادة ليست غاية، بل هي نتيجة لغاية تسعى لتحقيقها،وبما أنك تسعى للسعادة الأبدية، فأنت  تحتاج لحياة أبدية؛لذلك يجب عليك الامتثال لأوامر مانح الحياة الأبدية؛ حتى تصل لهدفك. أنصت إلى هذه الآية الكريمة التي تلخص التعاملات الإنسانية بشكل تام؛ قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ ۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا ) (الفرقان 20). 

قال د.وافي:

ما العلاقات الاجتماعية في هذه الحياة الدنيا إلَّا فتنة، أي اختبار لك، فهل تُفتن وتتنازل عن مبادئك وأخلاقك أم تصبر وبذلك تحقق العبودية لخالقك فتكون النتيجة النهائية رضا الله سبحانه وتعالى، وبالتالي الحياة الأبدية والسعادة المطلقة؟!

انظر إلى كل ما هو حولك في هذه الحياة من منظورالتشريعات الإلهية التي أكرمك بها خالقك، اجعل ميزان الصبر منهاجك، ولتكن كفة العفو والإحسان هي الراجحة لديك عند اتخاذ قراراتك، كن محسنًا وإن لم تلقَ إحسانًا،ليس لأجلهم، بل لأن الله سبحانه وتعالى يحب المحسنين.

ليكن رضا الله سبحانه وتعالى الغاية الأسمى في حياتك، واصنع الخير أينما كنت، فمن قال اصنع الخير وارمه في البحر قد أخطأ، بل اصنع الخير، واحتسبه لوجه الله سبحانه وتعالى.

قال وليد: كم أتمنى أن يختفي الشر من هذا العالم!!

قال د. وافي:

انت بذلك ستُفسد الأرض والغاية من الخلق.

قال وليد مرتبكًا: لقد قلت أن يختفي الشر، وليس الخير.

قال د. وافي: أعرف لقد سمعت ما قلته جيدًا.

هل تتخيل يا وليد أن حكمتنا ورحمتنا تتعدى حكمة خالقناورحمته؟!

قال وليد: بالطبع لا، وأردف بصوت خاشع: حاش لله!

قال د. وافي:

لو حقق الله أمنيتك، واختفت الشرور من الحياة الدنيا،فعمَّن ستعفو؟ وعلى أذى مَنْ ستصبر؟ وكيف سيختبر الله سبحانه وتعالى حقيقة إيمانك؟ ومن أين ستأتي بالمزيد من الحسنات؟ وبأية طريقة ستقاوم الآثام؟

إن وجود الشر هو أكبر نعمة لأهل الخير؛ ذلك أن مقاومة الشر تحقق العبودية لله سبحانه وتعالى، وترفع درجات المؤمنين يوم القيامة، كل بمقدار ايمانه وصبره، ولا يظلم ربك مثقال ذرة.

قال تعالى: ( وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ﴿16﴾ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ﴿17﴾ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ﴿18﴾ ) .

أعرفت الآن الغاية من الخلق يا وليد؟

أومأ وليد برأسه إيجابًا وقال بخشوع : نعم… عرفت .

أخذ وليد الوصفة، وحدق بها مطولًا، ثم خرج من باب العيادة، وهمس في نفسه: شكرًا د. وافي، لقد وجدت علاجي بين ثنايا كلماتك، وتمام شفائي في آيات تزين حائط عيادتك.  

ووضع الوصفة في جيبه، ومضى مبتسمًا.

وفي يوم من أيام شهر أكتوبر الممطرة، وبعد مرور ثلاثة أشهر من زيارة وليد لعيادة  د. وافي، قرر التوجه إلى عيادة د. وافي لكي يشكره على المساعدة العظيمة التي قدمها له،وليطلعه على مدى التحسن الكبير الذي طرأ له بعد تلك الجلسة.

وصل وليد لموقع العيادة، وعند دخوله توقف عند موظفة الاستقبال، 

وقال: السلام عليكم، هل باستطاعتي أن أقابل د. وافي؟

وأردف بخجل: أعتذر انني حضرت بغير موعد.

قالت موظفة الاستقبال:  لقد زرتنا من قبل، أنا أذكرك جيدًا!

ولقد أخبرتك حينها أن هذه عيادة د. ماضي لطب الأسنان!وأردفت بلهجة فظة: لقد قلت لك لم يكن في هذا المكان عيادة ل د.وافي قط، أنا لا أدري ما الذي تخطط له، وإذا حضرت إلى هنا مرة أخرى سأضطر إلى استدعاء الأمن.

بدت على وجه وليد ملامح الذهول وقال: أنا متأكد يا سيدتي أن هذه عيادة د.وافي 

لقد زرته منذ ثلاثة أشهر!

وقفت موظفة الاستقبال، وحدقت في عيني وليد من فوق نظارتها الصغيرة المستطيلة، وصرخت في وجهه: آنسة يا أحمق!

ورفعت سماعة الهاتف طالبة رجال الأمن.

نظر وليد إلى باب العيادة المغلق، وركض مسرعًا نحوه وفتح الباب.

فرأى كرسيًا لعلاج مرضى الأسنان وطبيبًا منكبًا على فم مريض، ويمارس عمله.

نظر وليد بذهول إلى الحائط، فلم يجد الآيات! وقال بصوت مرتجف: المعذرة  دكتور المعذرة ….

وقبل أن ينبس الطبيب ببنت شفة، وصل فريق الأمن،وأخذوا وليد إلى خارج المبنى، وهو يردد، مستحيل ...لا يمكن!

أخذ وليد يمشي في الشارع على غير هدى، حتى سمع صوت المؤذن ينادي لصلاة العصر، فاتجه إلى المسجد،وتوضأ، ثم دخل لأداء الصلاة.

و بعد الانتهاء من أداء الصلاة التفت إليه رجل ذو لحية بطول قبضة اليد، اختلط سوادها بالبياض، بشوش الوجه،عريض الابتسامة، أكحل العينين، يلبس ثوبًا رمادي اللون،ويعتمر عمة بيضاء على رأسه .

قال الرجل مبتسمًا: أهلًا يا وليد، ومد بيده ليصافحه.

قال وليد متلعثمًا وهو ينظر إلى يد الرجل: عفوًا، من أين تعرفني؟ هل التقينا من قبل؟

أجاب الرجل: بالطبع، التقينا من قرابة شهرين أو ثلاثة، لا أذكر بالتحديد؛ فالأيام تجري.

وأردف ضاحكًا: ولو أننا لم نلتقِ من قبل، هل يمنعك هذامن مصافحتي؟!

ابتسم وليد بخجل، ومد يده لمصافحة الرجل، وقال: المعذرة يا شيخ …فأنا  لا أذكر اسمك!

قال الشيخ: اسمي حمزة، وأردف مبتسمًا: بالتأكيد لن تذكر اسمي؛ فأنت لا تذكر أنك قابلتني بالأصل، ولكن لا عليك، فإني أرى من خلال عينيك طيبة قلبك، وهذا كفيل لأن أسامحك.

اعذرني يا شيخ حمزة، فقد مررت بأحداث غريبة هذا اليوم!

قال الشيخ: خيرًا ان شاء الله!

ما الذي حصل لك؟ هل أستطيع مساعدتك؟

قال وليد: جئت إلى حيِّكم لكي أزور عيادة د. وافي (الطبيب النفسي)، ولكن لم أجدها مع أنني زرتها قبل ثلاثة أشهر بالفعل!

تساءل الشيخ حمزة متعجبًا: د. وافي؟! طبيب نفسي؟

و أردف قائلًا:

أنا أسكن في هذا الحي، وأخدم هذا المسجد منذ 20 عامًا،ولا أذكر أنه كان لدينا في يوم من الأيام عيادة طب نفسي!

ولكن … أنا أذكر ذلك الاسم جيدًا ( د.وافي ) …  فعندما جئت في ذلك اليوم، وبعد انتهائك من صلاة العصر، رأيتك تجلس حزينًا ومهمومًا في زاوية المسجد.

فأقبلت عليك، وسألتك: ما بك مهموم وحزين؟ فلم تجبني.

قلت لك: أنا اسمي حمزة، ما اسمك؟ وطلبت ذلك منك عدة مرات حتى أجبتني بصوت خافت:  وليد.

ذهبت وتناولت مصحفًا، وناولته لك، وقلت لك حينها: اقرأفي هذا الكتاب العظيم؛ فهو مؤنس للوحدة، وطارد للأحزان، وشفاء لما في الصدور .

فتناولت المصحف من يدي على استحياء، وفتحته بشكل عشوائي، وبدأت بالقراءة، واستمررت بذلك لمدة طويلة، وأنا أراقبك من بعيد، كنت تقرأ وتبكي بشدة، وغبطتك في تلك اللحظة من الخشوع، واستمررتُ بذلك حتى أخذتك سِنة من النوم، فجئت لإيقاظك قبل صلاة المغرب، وبمجرد أن فتحت عينيك قلت لي: شكرًا د. وافي.

و بعد انتهاء صلاة المغرب بحثت عنك فلم أجدك.

وأعتقد في ذلك اليوم أنك أسقطت ورقة  قد تكون مهمة لك،على ما يبدو أنها تقرير طبي أو شيء من هذا القبيل، لقد وجدتها في المكان الذي كنت تجلس فيه، فاحتفظت بها لعلًي أراكَ وأعيدها لك.

نهض الشيخ حمزة، ومشى نحو المحراب، وأحضر كتابًا،ثم أخرج منه ورقة، وعاد إلى وليد وناوله إياها، وربت على كتفه وقال: أسأل الله لك الشفاء العاجل، شفاءً لا يغادر سقمًا.

أمسك وليد بالورقة وأخذ بقراءتها:

د. محمد عبد الودود

استشاري أمراض المخ والأعصاب 

التشخيص:

بعد مراجعة ملف المريض ، تبين أن ألم الرأس، وما يرافقه من فقدان في الذاكرة لبعض الأحداث قد يعود لتعرضه لحادث سير في الثامنة عشرة من عمره، أو قد يكون ذلك الصداع وفقدان الشعور بتتابع الأحداث ناتج عن ضغوطات نفسية، وبناءً على ذلك تم إعطاؤه مسكنات لعلاج الصداع عند اللزوم، ونوصي بتحويله لعيادة الطب النفسي للنظر في حالته.