رسائل إلى أمي … ( نيسان ، ماهي إلَّا أسماء ! ) بقلم د.أنور القبالي 

.

رسائل إلى أمي …
 نيسان ... ماهي إلَّا أسماء!
بقلم د.أنور القبالي 


 
كان خريفاً محت ملامحه غزارة الأمطار ، وصيفاً تجمَّدت مشاعره تحت ثلوج رمادية تساقطت من سماء داكنة رعدية ، وشتاءٌ تبخرت فيه مياه البحار والأنهار، وأحرق لهب شمسه الأشجار ، لم يكُن الربيع ربيعاً يوم رحلتي .
تكاد الغيرة تقتلني من ذاك التراب الذي ضمَّكِ للأبد بين أحضانِه يا أمي .
تغير الكثير مذ ذاك النيسان ...
حتى آدم ، قالوا له: غيَّرتك الأيام ! فقال لهم : لو كنتم تعرفون الزمان لقُلتم نحن من غيَّرناه و لم تغيِّره الأيام ! 
و مضى في طريقه …
مسكينة تلك الأيام ، ما تخرج من قضيَّةٍ إلَّا وعادت إلى قفص الاتهام ،
فالسجَّان شقيق القاضي و القاضي تؤام المحامي أخُو المدعَّي العام .
 
أمي ... تغيَّر الكثير مذ ذاك النيسان ،
صديقي قيس تزوج من ليلى و جاءا بعد سنة يشكوان الأيام، و لم يكونا يعرفان أن خلع الثياب بين العُشاق يكشف عورة الجسد ، أما خلعها بين الأزواج فيكشف عورة النفس والجسد ؛ فهما مسكينان ! ولكنهما الآن يعرفان أن التواصي بالحق يلزمه التواصي بالصبر ، وأنا أيضاً عرفت ، 
عرفت أن المجنون قد لايكون من فقد عقله ، بل قد يكون ذلك الحكيم المقهور الذي لم يستطع تحمُّل قُبْحَ الحقيقة ، فاختار أن يُلقي خطاباته على أصدقائه المجانين ، بعد أن ألقاها لسنين طويلة على الحاضرين في عزاء الأُذُن .
عرفت أن الموت ليس خياراً ولا يعني نهاية الحياة ، بل هو السبيل الوحيد للخروج من هذه الدنيا بأقل الخسائر ...
وعرفت أن السبيل الوحيد للنجاة هو الجين الذي أورثتنيه  ، هو جينُ حب الله .
 
عرفت الكثير والكثير ، ولكنَّ السؤال الذي عجِزتُ أن أعرف إجابتَه ؛
من تألم أكثر يوم رحلتي ،  أنا أم أنتِ ؟
 
أتذكرين (نجاح) ؟ جارتنا التي كانت تحلم  لسنين طويلة بطفلٍ تضمه الى صدرها ، قد حمِلت أخيراً ، ورُزِقت بطفلٍ قد يفاجئك اسمه ، 
أسمته (تضحيات)، لقد كان اسما غريباً بعض الشيء ولكنه كان مناسباً لشكله تماماً . 
 للأسف ُولِدَ ( تضحيات ) مصاباً بمرضٍ حرمه من القدرة على المشي ، 
وها هي نجاح 
تحمل تضحيات بين يديها أينما حلَّت و ارتحلت ، و زوجها رحل عنها لعدم قدرته تحمل رؤية ابنه (تضحيات) على تلك الحال ،فتسارع أهل الخير اليها بالعطايا رأفة وعطفاً على حال ذلك الصغير الذي أخذ يكبر ويكبر بجانب والدته نجاح  ،
التي كانت تكبر بطبيعة الحال ، ولكنها رغم حال ابنها كانت تزداد تألقاً و جمالاً ، ورغم وصول نجاح إلى ما كانت تحلم به على مستوى الجمال والمال ، إلا أنها كانت دوماً تنظر إلى عيني (تضحيات ) تارة فتبتسم ، وتارة أخرى تختلس نظرة تجاه قدميه المرتخيتين فتجهش بالبكاء …

إلى اللقاء في موعد جديد و رسالة أُخرى يا حبيبتي 
… 
رحِمَك الله يا أمي ، ابنك الصغير المُحب ،
نور