شاهين ، هوَ غلامٌ يعيش في كنف عائلةٍ بسيطةٍ من إحدى القبائلِ البدويَّةِ، تجني تلك العائلةُ رزقها من رعيِ الأغنامِ، وبيع الأجبانِ، وكان شاهين يرافقُ والدَه من حينٍ لآخر إِلى قريةٍ مجاورة، ليقوموا بمقايضة بضائعهم من اللحوم والأجبان بالقمح والشّعير والخضار وغيرها، كان حلم شاهين امتلاك منزلٍ طينيٍّ، مثل ذلك الذي في القريةِ، بدلًا من خيمتِهم البالية المهترئَة، وهذا كان جلَّ اهتمامه كلما زار ذلك المكانَ، وفي إِحدى الزيارات إِلى تلك القريةِ؛ لاحظ أحدُ المزارعين نشاط وهمَّة شاهين العاليةَ، ولا سيما ذكاءه وفطنته، فلم يتردَّد في أن يطلبه للعملِ لديه في مجال الزراعة والحصادِ، فعرض الوالدُ عليه فكرة الانتقال إلَى تلك القريةِ للعمل، ولم يتردَّد شاهين في قبول ذلك العرض، علَى الرّغم من حجم الصعاب التي سيواجهُها عند الانتقالِ إِلى القريةِ؛ لفراقه عائلته وأصدقائه وذكرياتهِ، ولكن حبّه وأمله أن يسكن بيتًا طينيًّا باتَ حلمًا لا يفارق مخيّلته البتَّة، ودفعَهُ إلَى الذّهاب للاستقرار في تلك القرية.
أخذ شاهين يعمل بجدٍّ وتفانٍ منقطع النّظيرِ، ليلًا ونهارًا، صيفًا وشتاءً، صابرًا على كلِّ أذى، يجمع النقود بحرصٍ شديدٍ، مانعًا نفسه من تبذيرها في أيٍّ من الملهيات، فهو لا يرَى أمامه إلا ذلك البيت الطيني. وبعد سنتين من العملِ استطاع بصبره وتصميمه أن يبني بيتًا طينيًّا، واستقدَم عائلته إِلى القريةِ، وبالفعل قام بتحقيق حلمه.
وفي تلك المدَّة من الزمن، كان شاهين يرافقُ صاحب المزرعة من حينٍ لآخر إِلى المدينةِ؛ لتوريد الخضراوات إلى بعض التُّجار، وما كان ملفتًا له -كالمعتادِ- هو تلك المباني الجميلة، والحَياة الرَّاقية في المدينة، مما أدخل الحسرةَ في قلبهِ؛ لِأنه يمتلك بيتًا طينيًّا متواضعًا في قريةٍ متواضعةٍ! فعاد حلمُه بالتَّجدد أملًا في أن يمتلك شقةً في المدينة تطفئُ نار تلك الحسرة.
وبعد مرور أَربعة أَعوامٍ من إِقامته في القرية؛ تعرَّض صاحب المزرعة لوعكةٍ صحيةٍ أَفقدته القدرة على المشي، فطلب من شاهين أن يقوم بإدارة الأعمال نيابةً عنهُ، وكانت هذه فرصة له بالتَّردد الدّائم إِلى المدينةِ ليتابع الأعمالَ، واضعًا نُصبَ عينيه هدفَ امتلاك الشقَّة، واستطاع خلالَ مدّةٍ وجيزةٍ تحقيق هدفه بامتلاك شقةٍ صغيرةٍ في المدينة، في مكانٍ متواضعٍ بعض الشيء، فالشُّقق هناك باهظة الثمن، ولكن الحسرةَ لم تفارقه هذه المرَّة، وذلك لحلمه امتلاك شقَّة أكبر في برجٍ فخم في وسط المدينة! فقرر أن يكافح ويصبرَ، ويجمع الأموال للوصول إِلى ذلك الهدف، فاتَّجهَ إلى العمل في تجارة الأقمشة والمواد التموينيَّة، حيث استمرَّ بمتابعة أَعمال المزرعةِ، مع نقل الأقمشة والمواد التموينيَّة من المدينة إِلى قريته والقرى المجاورةِ، وبيعها، فكانت السَّاعة التي لا يعمل فيها يقضيها بالتَّفكير في العملِ؛ ليحقِّق حلمه بامتلاك تلك الشُّقة الفارهة المكوّنة من طابقين في برجٍ شاهق الارتفاعِ، يطلُّ على مركز المدينة.
وتشاء الأقدار أن يقضي صاحب المزرعة نحبَه بعد صراعٍ طويلٍ مع المرض، ليتزوّج شاهين ابنتَه الوحيدة، التي ورثت ثروةً لا بأس بها، علَى الرّغم من أنها قبيحة المظهرِ، سيِّئة الخُلق، على عكس شاهين تمامًا، الذي كان يتباهى بوجهِه الوسيمِ، وجسده المتناسقِ، ولا سيما أخلاقه الحميدة! ولكنه قرَّر أن يصبر على قبحها وسوء خُلقها من أجل تحقيق هدفِه.
ولم تختلف هذه المرَّة عمَّا سبقها، وبالفعل امتلك تلك الشُّقة بعد أن أقنع زوجتَه ببيع أملاك والدها، والانتقالِ للعيش في المدينة، وقام بِاستثمار ما تبقَّى من أموالٍ مع صديقٍ له في تجارة استيراد الأقمشة وبيعها.
وفي يومٍ من الأيام، قام شريكه بدعوتِه إِلى بيته في زيارةٍ عائليةٍ؛ لتناول طعام العشاء، فاصطحَب شاهين زوجتَه، وانطلقا في سيارتِهما إلى الضَّاحية الغربيَّة من المدينة، كانَ الطّريق معبدًا، محفوفًا بأشجار الصّنوبر من الجانبين، وتترامى القصورُ الفاخرة الجذابة على جنباته، ذلك المنظر المهيب لتلك القصورِ الفارهة، كاد يقذفُ بقلبه خارج صدره من شدّة الخفقان والحسرة؛ لامتلاكه شقةً متواضعةً في مركز المدينة، وكانت الفاجعةُ عندما وصل الى أعلى تلك التلة الخضراء، ليلمح بطرف عينيهِ تلك البوَّابة الحَديديَّة المهِيبة، والتي يتعدَّى طولها ثلاثة أمتار، والمُزيَّنة بالزَّخارف الذهبية البرَّاقة، وعندما فُتحت البوابةُ؛ شعر بسَهمَين من الحسرة والقهر يخترقان قلبهُ عند رؤيته الحديقة الأماميَّة بأشجارها وأزهارها وعصافيرها، وصوت نغمات المياه العذبةِ الصادرة من نوافيرها، ومن أمامه ذلك الرّخام الأبيض اللون الجذّاب، الذي تكتسي به جدرانُ ذلك القصر الجميل وأَعمدته. كان شاهين على معرفةٍ تامةٍ أنَّ قلبَه معلقٌ بجمال البيوت منذ صغرهِ، ولكنَّه في هذه المرة شعر بأحاسيس غريبةٍ، تتلاطم كأمواج هائجةٍ في جنبات قلبه، شعر بها، ولكنه عجز عن تفسيرها.
بعد تناول طعام العشاء، الذي بالكاد كان يستسيغ طعمَه، وهو ينظر إلى فخامة المائدة بأوانيها الفضّيَّة البرّاقة من جهةٍ، وتلك المرأة الحسناء آية الجمال التي تجلسُ أَمامه من جهةٍ أُخرى، تسيطرُ عليهِ رغبتُه الجيَّاشة بالتأمُّل في حسنها، والنظر إِليها تارةً، ويمنعُهُ ضميرهُ، أو ربما خوفه من صديقه أو زوجته أن يلاحظا تلك النَّظرات، تصرع عينَيه، فيشيح بنظرهِ تارةً أُخرى.
أذناه لا تسمع إِلا همساتٍ خافتة لأطراف حديثٍ متبادلٍ، تتخاطفه أصداء طرق الملاعق والصّحون آتية من مكانٍ بعيدٍ، وبينما هو مهلهلٌ بين هذا وذاكَ، وإذ بصديقه يربت على كتفه ويقول لهُ:
- ما بك شارد الذهن ولا تأكلُ؟
قال شاهين مرتبكًا ومبتسمًا بعد أن وضع سكينه وملعقته على طرفي صحنه، والتقط منديلًا، وقربَهُ إِلى وجهه دون أن نَدري هل ليمسحَ به بقايا الطعامِ من على فمهِ، أم ليخفي تعابير وجهه التي قد تظهر خفايا نفسِه:
- أبدًا! لقد أكلتُ ما يزيد عن حاجتي، شكرًا يا كريم، لقد كان عشاءً رائعًا، أشكرك يا سيدة هناء على صنعك هذا الطعام اللذيذ!
قالت هناء متلعثمةً، مع ابتسامة براقةٍ:
- العفو سيد شاهين، ولكن لستُ أنا من قام بالطبخِ، بل الطاهي الخاص بنا.
صرخَ صوتٌ في نفس شاهين: يا لكم من متعجرفين! لكنّهُ تمالك نفسهُ، وغطى تلك الصرخةَ بابتسامةٍ رقيقةٍ، وغرس المنديل في فمه متظاهرًا أنه يمسح بقايا الطعام مرةً أُخرى.
وما أنقذه من ذلك الموقفِ هو صوتُ زوجته الجهوري التي استدركت وقالت:
- لا بدَّ لكم أَن تستبدلوه بطاهٍ آخر، فالطَّعام لم يكن مطهوًّا بشكلٍ جيِّدٍ.
وأَسنَدت ظهرها السَّمين إِلى الكرسيِّ، ونظرت الى زوجة كريم مباشَرةً، وقالت بنبرةٍ متعجرفةٍ:
- عندما كنتُ أعيش مع والديّ في قصرنا؛ طردنا طاهيًا لأنّه تأخر عن تحضير الطعام خمس دقائق، يا له من غبيٍّ! هكذا يجبُ أن يُعامَل هؤلاء البشر!
وأرجعت رأسها، وفتحت فمها الغليظَ على مصراعيهِ، وأطلقت ضَحِكةً ارتجَّت لها أركان القصر!
"يا لوقاحتكِ! كيف تكذبين وأنت تنظرين إلَى عيني تلك الحسناء البرَّاقتين مباشرةً"، هذا ما حدثتهُ به نفسُ شاهين، لكنّه بالتأكيد لن يَستطيع البوح بما يجول في خاطرهِ؛ بسبب الخوف من العواقب، أو ربما احترامًا لتلك الوضيعة!
استدرك كريم الموقفَ، فنهضَ، وطلب منهم التوجُّه إِلى غرفة الجلوس لتناول الشاي! "لديهم غرفة جلوس لتناول الشاي! يا لهم من متعجرفين! هل هم فعلًا متعجرفون؟"
استمرَّت زوجةُ شَاهين بإطلاق النكات والسَّخافات والضحكات المستفزَّة، إِلى أن أنقذَهُ كريم للمرة الثانية، إذ دعاهُ للجلوس في غرفة المكتب الخاصّ به، "بالتأكيدِ دعاني للذهاب إِلى هناك لكي يتباهى بذلكَ، يا له من متكبرٍ! أعتقد أنني لن أقوم بزيارته مرةً أخرى"، قالَ شاهين:
- يا له من مكتب جميل وفخمٍ! لديك عديدٌ من الكتب، هل تقرأُها أم هي لأغراض الديكور؟
ضحك كريم، والتفَّ وراء مكتبهُ، وجلس على كرسيه، قال شاهين في نفسه: لماذا يضحك؟ هل قلت شيئًا مضحكًا؟ يا له من ساذج".
- لا، إنَّها ليست بغرض الديكور، إنما أنا مهتمٌّ بأمور أخرى بعد انتهائي من أعمالي اليومية.
"آها! عملٌ أخر يُدِّرُ له أَرباحًا طائلةً! هذا ما حدثتني به نفسي، واستدركت قائلًا:
- أَي نوعٍ من الأعمال؟ البورصة أم تجارة الذهبِ؟
- هههههههه، لا هذا ولا ذاكَ، فأنا لا أعمل إلا في تجارة الأقمشة في النهار معك، وأعمل للجزء الآخر من حياتي في الليل.
أي جزءٍ آخَر؟
"يبدو أَن هذا اللعين متزوجٌ من امرأة أخرى، ويأتي إلى مكتبه للحديث معها عبر الهاتف ، بالفعل الإنسان لا يعرف قيمةَ ما يملكهُ، لو كنت أملك تلك الحسناءَ لفرشت لها الأرض ورودًا".
- أقصد بالجزء الآخر أي (الدار الآخرة).
"لقد ظننت به ظنًّا سيئًا، يا لوقاحتي! لا، أَنا لست وقحًا، هو مَن لم يوضّح لي الأمر!"
- بصراحةٍ يا كريم لقد فاجأتني، فأنت لَديك من كلّ شيءٍ، وما زلت شابًّا، وتهتم بهذه الأمورِ؟
ردَّ كريم بتواضعٍ وخجلٍ:
- الحمد لله، هذا من فضل ربِّي سبحانه وتعالى.
وأردف قائلًا:
- أَتعلم يا شاهين؟ عندما أَنظر حولي إلى ما رزقني الله بهِ؛ أشعرُ بالسَّعادة للحظةٍ، فأتذكَّر قوله تعالى في سورة التكاثر: ﴿ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴾ [التكاثر: 8]. فيدمغ خوفي سعادتي عندما أعلم أنَّ هذا لن يدومَ، وأننا إِلى ربِّنا راجعون، وعمَّا اكتسبنا مسؤولون.
"لقد بدأت حفلة النفاق! أنا أكره مناقشة هذه الأمور ولكنِّي مضطر إِلى ذلك".
- هوِّن عليك يا كريم، لمَ كل هذا الخوف؟! ما عليك إلا أن تكون صاحبَ أخلاقٍ طيبةٍ، وستدخل الجنة!
لم يُعلِّق كريم، واستكمل قائلًا:
- أخاف عندما أسمع قوله تعالى: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]. وقوله تعالى: ﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾ [الإسراء: 21]. ما هذه الدرجات التي أعدَّها الله للمؤمنين في الجنةِ؟ وما هو مدى تفاوتها؟! هل عملي سيزحزحني عن النَّار؟ أم سيدخلني الدَّرجات العلا من الجنة؟ أتعلم يا شاهين؛ أَنا أشعر بالرهبة الشديدة أيضًا عندما أستحضر في ذهني ذلك المشهد العظيم من مشاهد يوم القيامة، بقوله تعالى في سورة الزُمَر: ﴿ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(58) ﴾ [الزمر:56-58]. ذلك المشهد العظيم، يوم تزلُّ القدم، ولا ينفع الندم، لا للمسيء على إساءته، ولا للمحسن على عدم ازديادِه من الإحسان.
وضع شاهين رِجلًا على رجلٍ، وقالَ:
- لا عليكَ، استمتع بما لديكَ، فما زال العمر طويلًا، ونحن في النهاية مُسيَّرون وغير مُخَّيرين.
- وما أدراك أن العمر طويلٌ؟ قال تعالى: ﴿ وَما تَدْري نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَدًا وَما تَدْري نَفْسٌ بِأيِّ أرضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير﴾ [لقمان: 34].
"يا له من رجعيٍّ متخلفٍ، لا يقدِّر النعمة! كل هذا النَّعيم ويفكر في الجنةِ، أنت تعيش أصلًا في الجنة أيها الغبيّ! لو أدري أنّ هذا ما أراد أن يحدثني به ما قبلت دعوته إِلى العشاء! أنا الآن أفكر في أمرٍ واحدٍ فقط، كيف سأحصلُ على قصر مثل قصرهِ، وزوجةٍ مثل زوجته".
وأكمل كريم بعد أن بدأت تظهر على وجهه ملامح استنكارية:
- من قال لك إِننا مسيَّرون ولسنا مخيَّرِين؟ أنا لديَّ يقينٌ تامٌّ لا شكَّ فيه أن مشيئتنا لا تتعدَّى مشيئة خالقنا -عز وجلَّ- ولكن يجب أن تعلم أمرًا مهِمًّا، أَن الله قد خلق الإنسان مُخيرًا بامتلاكه حريَّة الإرادة التي منحها الله تعالى له، قال تعالى في سورة الإنسان: ﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان:3] وقال تعالى:
﴿ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد:١٠]، والنجدين: هما طريق الخير والشرّ. وفي سورة الكهف قال تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا ۚ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 29] فالإنسان مُخَّير باختيار طريق الهدى، أَو طريق الضّلال، ولكن تحت مشيئة الله الكليَّة في الخلق، قال تعالى في سورة التكوير: ﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ ﴾[التكوير: 29] فأنت حرٌّ في اختياراتكَ، ولكن لن تتم هذه الاختيارات إلا بمشيئة الله عزَّ وجلَّ، سأضرب لك مثالًا لتوضيح ذلك؛ لو قررت في لحظةٍ من اللحظات أن تقوم بالسَّرقة، هنا الأمر بيدكَ، أنت من اخترت بحُرِّيةٍ إرادتك أن تسرق، ولكن القيام بتلك العملية ما كان ليحدث لولا أن منحك الله وقتًا لتعيشَ وتقوم بها من ناحية، ومن ناحيةٍ أخرى تهيّأت لك الأسباب من الله عزَّ وجل بناءً على اختيارك!
فالأفعال السَّيئة الشريرة لا يقبلها الله سبحانه وتعالى، وينهَى عنها، وفي المقابل فإنَّه -سبحانه وتعالى- إِله خيرٍ، يأمرك ويحثُّك على فعل الخيراتِ، ولكنه شاء لك أن تقوم بهذه الأعمال بناءً على اختيارك، فأنت من تختارُ، وأنت من تُحاسَبُ، وأنت من تظلم نفسك، ولهذا خلقك الله بإرادةٍ حرةٍ، وجعل يوم الحساب ليثاب المحسنُ على إحسانهِ، ويعاقب الظالم على ظلمهِ، إذَن أنت مخيَّر تحت مظلة المشيئة الإلهيةِ، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾ [يونس: 9]. وقال تعالى: ﴿ ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [الحج: 10] أرجو أَن تكون قد فهمت ما أقصد يا شاهين.
رد شاهين بعبارةٍ تفوح منها رائحة النفاق:
- بالتَّأكيد فهمتكَ، وقد لامس كلامك قلبي! ولكن أنا أفكِّر بطريقةٍ أقلّ تعقيدًا من تفكيرك، فكما أخبرتك من قبل الأمر لا يستدعي كلّ هذا القلق! في هذه الحياة عليك التزام الخلق الحسن، وامتلاك قلب طيبٍ، وستدخل الجنة.
- لا أَستطيع فهمك بوضوحٍ يا شاهين، هل تقصد أنَّك لا تؤمن بالله؟!
قال شاهين مرتبكًا بعد أَن عدّل جلستهُ:
- لا، أَنا أؤمن، ولكن من وجهة نظري أنَّ الدين للتعبُّد فقط، أما ما يخص تشريعات الحياة، فالأخلاق الإنسانيّة كافيةٌ لِردع الشّخص عن القيام بالأفعال الخاطئةِ، ولا أَرى ضرورةً لاتباع الشَّريعة الدينيَّة في هذا الأمر!
- أَختلف معك في هذه النقطة تمامًا يا شاهين، فمنظومة الحياة تحتاج مشرِّعًا حكيمًا من خارج هذه الكينونةِ، يعرفُ مَصالح خلقهِ، ويُشرِّع القوانين والأخلاق الحسنةَ والعادلة، ولن تجد أقوى من الوازع الدينيِّ، أي رقابة الله لك في السر والعلن في منعك من إتيان الشرور، أما القوانين الأخلاقيَّة الوضعيَّة البشرية، فتتلوَّن بصبغة المصالح البشريَّة، والمبرّرات النفسيَّة، فهي أخلاقٌ نسبيَّةٌ.
"يا له من رجعيٍّ متخلفٍ، انظُر إِلى أين وصلت بنا العلوم والتقدم الحضاريّ، ولا زال يعتقد أن الوازع الدينيَّ هو الرادع للبشر، على الأغلب أنَّه لا يقرأ كتب الفلسفة الغربيَّة، فعقله الصَّغير لن يستوعب الفكر الغربيَّ المعاصر، لقد اكتشفتُ أنه رجعيّ منذ لحظة رؤيتي لتلك الحسناء وهي ترتدي ذلك الحجابَ، هل ما زالَ إلى يومنا هذا هناك أُناسٌ يؤمنون بهذه الأمور الغريبةِ! لا بدّ أنه هو من أجبرها على ارتداء الحجاب، ولكن لأكون صادقًا، فالصدق أمانةٌ أَخلاقيَّةٌ! لقد كان وجهها منيرًا كالبدر في ذلك الحجابِ، فكيف لو خلعته؟!".
- بالمناسبة، كم كلّفك بناء هذا القصر الجميلِ؟ فأنا أفكِّر أن أَقتني واحدًا مثله في المستقبل.
- حقًّا! لقد أسعدَني أنَّه أعجبك، لا عليكَ، إذا عقدت العزم، فسأقوم بمساعدتكَ، فقد أصبحتُ صاحب خبرةٍ في أمور البناء، ولديَّ علاقاتٌ عديدةٌ في هذا المجال.
- لم تخبرني كم كلفك!
"هذا الحقير لا يريد أَن يخبرني كم كلفه بناء القصرِ، إنه يخاف من الحسد، أنا بطبيعتي لست حسودًا، فهذا ليس من أخلاقي، ولكن من الجيد أنَّني عرفته على حقيقته، إنه مريضٌ نفسيٌّ، وأخلاقي لا تسمح لي بأن أَدعوه بالحقير، ولكنه هو مَن اضطرني إِلى ذلكَ، هو السبب! يجب أن أُنهي شراكتي معه في أقرَب وقتٍ".
- أَتوقَّع أَنه كلفك المليون؟!
- أحسنت يا شاهين، مليون ومئتان وخمسون ألفًا تقريبًا، ولكن هذا كان قبل عشر سنواتٍ، فلا بد أن الأسعار قد تغيَّرت وارتفعت.
"آها، الأسعار ارتفعت! يريد أن يرهبني من الأمرِ؛ حتى لا أبني قصرًا مثلهُ، يا له من وغدٍ حسودٍ!".
- سأقوم بعمل دراسةٍ كاملةٍ لك إذا أحببتَ، وإذا عقدتَ النية على البدء بمشروع البناء قريبًا؛ فأنا أدَّخر مبلغًا من المال ليس بي حاجةٌ إليهِ، فيمكنني إِقراضه لك متى شئت.
"لديه مبلغ إضافيٌّ من المال، من أين يأتي بهذه الأموال؟ ويريد الدرجات العلا من الجنة! يا له من جشعٍ، وأكرر هو من اضطرني إلى وصفه بهذا الأوصافِ".
- على أي حالٍ، أَنا ما زلت أفكِّر في الأمر، وعندما أُقرر البدء بتنفيذ المشروع سأخبرك بذلك.. أوه! لم أَشعر بمرور الوقتِ، إنها الحادية عشرة، لا بد لنا من الانصرافِ، أشكرُك على حسن ضيافتِك يا كريم.
خرجت من غرفة المكتبِ، ولا زالت البدينة تثرثرُ، أرى في وجه الحسناء ابتسامة رقيقةً، تُخفي وراءها آثارَ انهيار عصبيٍّ من أثر تلك القذائف التي أطلقتها البدينة في وجهها.
- هيا بنا يا حبيبتي لقد تأخر الوقت.
- ما زال الوقت باكرًا..
هذا ما قالته الحسناء، "يا لذوقها الرفيع!".
- أشكرك يا هناء، لقد سعدت بالحديث معكِ، بالمناسبة.. إذا احترق البيتُ، أو حدثت لكم مصيبةٌ؛ لا تقولي إنَّني السبب في ذلكَ، فقد طرقت الخشبَ!
وأطلقت ضحكتها المستفزَّة مرة أُخرى، وضربت على كتف الحسناء، وحضنتها حتى كادت تكسر ضلوعَها الرقيقة.
- ويخبرنا شاهين قائلاً :
في طريق العودة إلى المنزلِ، استمرت المعاناةُ، فرصيد الثرثرة لدى البدينة لا ينفد، ولكن لا بأس، فأنا كنت لا أكاد أسمع زئيرها، وإنما همسات في أوقاتٍ متباعدةٍ، يفصل بينها صورة ذلك القصر الجميل والحسناء من جهةٍ، والحسرة والحيرة للحصول عليهما من جهةٍ أخرى.
- ماذا عليَّ أن أفعلَ، ماذا عليَّ أن أفعل؟
- هييييييه أَنت! أنا أُحدثك ألا تسمعني؟
- بلى حبيبتي، بلى أسمعك؟
- وماذا سألتك؟
- ها! نعم، لقد نسيت ماذا كنت تقولين؟
- سألتك من ترى الأجمل؟ أنا أم تلك القبيحة؟
ونظرت إليَّ بعينيها الغائرتين نظرة ضبعٍ ينتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على فريستِه!
- هههههههه، بالطبع أَنت يا حبيبتي، وهل في هذا نقاش؟! ولكن أعجبتني قصة والديكِ والطاهي، من أين أَتيت بها؟ هههههههه.
- لماذا تضحك؟! لقد كان عندهما طاهٍ بالفعل قبل أن تتزوجني.
- آها، وماذا عن القصر؟
أجابت بتلعثم وهي تحكُّ أنفها الأفطس:
- كان عند أبي قصرٌ قبل أن تتزوجني أيضًا.
"جميل، تلك البدينة كذَّبت الكذبة وصدقتها، ونسيت أنَّني كنت أعمل عند والدها قبل الزواجِ، يا لها من بلهاء".
- أوقِف الموسيقى، أريد أن أنام قليلًا.
- اقتلها!
صوتٌ اخترق رأسَ شاهين فجأةً، ودون سابق إنذار، ودار بينه وبين هذا الصوتِ حوارٌ طويلٌ:
- ماذا؟! هل قلت أقتلها؟!
- نعم، اقتلها.
- ولكن لماذا؟!
- لأنها لا تستحقُّ الحياة، هي حقيرةٌ وضيعة ومتعجرفةٌ، وفي النهايةِ فإنها ستموتُ، هذا قدرها.
- ولكن.. أنا لستُ قاتلًا؟!
- ألا تريد أن تحصل على مثل ذلك القصر الفاخر، ألا تريد أن تعيش مع الحسناء؟ اقتلها واحصل على ما تريد، لم يبقَ في العمر بقيَّةٌ لكي تجتهدَ وتعملَ وتصبرَ، كفاك، استمتع بما تبقَّى لك من عمرك.
- أريد الحصول على ذلكَ، ولكن ليس بقتلها، نعم إنَّ قدرها أن تموتَ، ولكن بقتلي لها أكون أنا من اخترت أن أَكون السَّبب في ذلك!
- هههههههه، هذا ما كنت أَخافُ منه، أن يقنعك ذلك الرجعيُّ بأفكاره! يا لك من ضعيفٍ، هل غيَّرَ معتقداتك؟
- لا، لا، أَنا صاحب رأيٍ، وليس من السهل تغيير قناعاتي، وليس لأحدٍ أن يغلبني برأيهِ، ولكن أخلاقي لا تسمح لي بالقتلِ، لنجد حلًّا آخر.
- لا عليكَ، ستشعر بقليلٍ من الندمِ، ومن ثم سيزول ذلكَ الألم شيئًا فشيئًا عندما تعيش بقيَّة عمرك في مثل ذلك القصر بجانب الحسناء، ومن قال لك إِنَّ القتل عملٌ لا أخلاقي عندما تكون هناك ضرورةٌ؟!
- ضرورة؟ أيُّ ضرورةٍ؟!
اختفى ذلك الصوتُ بوصول شاهين وزوجته إِلى المنزلِ، وما كاد يضع رأسه على الوسادة حتى عاد له من جديدٍ:
- انظر إِلى تلك الوضيعة إِلى جانبكَ، لا زالت تثرثر حتى في نومها، اكتم نفسها، وتخلَّص من شخيرها، صدِّقني إن قدرَها أن تموتَ، وقَدَرُك أن تعيش بسعادةٍ، نحن مُسيَّرون ولسنا مُخيَّرين، أنسيتَ ذلك؟! ها أنت تقضي نصف أيام الشهر في إقناعها بالإنجاب، وهي ترفضُ، ولماذا؟ كي لا تفقد رشاقتها، يا لها من حمقاء! أنا لا أدري بأي عينٍ تنظر إلى المرآة؟ إنها أنثى لا تصلح لشيءٍ، وموتها سيعود بالفائدة على الجميع.
- الجميع! من الجميع؟
- أنتَ والناس من حولك، ألم تلاحظ مدى وقاحتها اليوم مع الحسناء؟ آه الحسناء! أتذكر تلك العينَين البنيتَين الواسعتَين، وذلك الأَنف الدّقيق، والفم الرَّقيق، هذه من تستحق العيش، هذه من تستحق أن تنجب الأطفال!
- إذن سأطلِّقها.
- هل جُننت! ألا تذكر أن ما أنت فيه هو من ميراث والدها! أتريد أن تطلقها وتخسر كل شيء لتبدأ من جديد؟ قلت لك لم يتبق في العمر بقية؟ القصر والحسناء، والعمر يمضي، اقتلها الآن، ما عليكَ إلا أن تضع الوسادة على وجهها، وتكتم أنفاسها، وتدَّعي أنك استيقظت فوجدتها فارقت الحياة، لا تخفْ، إن الأمر بسيطٌ، فلا تعقِّده.
- أتعلم؟! أنت على حقٍّ، إنها لا تنفع لشيءٍ، حقيرة ووضيعة وكاذبة، وأنا أقتل نفسي بالعيش معها، أنا إذَن قاتلٌ في جميع الأحوال! وبالتأكيد ستسببُ أخلاقُها الوضيعة فسادًا أخلاقيًّا، فبقتلها أُحافظ على أخلاقي، وأخدم المجتمع بالتخلص من هذه الفاسدة، نعم. أنا ضحيَّة العيش معها، وهي قاتلةٌ لأَنها تقتلني بإنقاص عمري في العيش معها كل يومٍ لا محالة، فإذا قتلتها أكون قد قتلتها دفاعًا عن نفسي، وهذا فعلٌ أخلاقيٌّ، ومن أبسط حقوقي.
- نعم، أحسنت يا شاهين، هذا ما كنت سأقوله لك بالضبط، الآن بدأت تفهمني!
- ولكن.. ماذا عن كريم؟
- لا تقلق، سنتدبَّر أمره فيما بعد.
ودون ترددٍ، قامَ شاهين من فراشه، وأمسك بالوسادة، ووضعها على وجهها، وضغط عليها بكل قواهُ:
- موتي أيتها القاتلة، موتي أَيتها الحقيرة، لم أُرد قتلك، ولكنه قدرك وقدري، لم أُرد قتلك، ولكنك اضطررتني إلى ذلك بأخلاقك الفاسدةِ، أنا أُدافع عن نفسي، أنا أدافع عن المجتمعِ، أَنا أدافع عن أخلاقي، أنا مُسيَّرٌ ولست مُخيَّرًا.
واستمر بالضغط حتى لفظت أَنفاسها الأخيرة.
د.أنور القبالي
"أحداث القصة والشخصيات من وحي خيال الكاتب "