صانِعُ الساعات ... من كتاب الفلسفة في ميزان التفكُّر الإسلامي - د.أنور سعيد القبالي

.

بعد أن أغلق المتجر أبوابه ...
استفاقت الساعات من سباتها العميق 
لتبدأ إجتماعها اليومي ... 
أجيال عديدة مرت على هذا المتجر ،
منها من هَرِم ومنها من مات وأُخرى وُلِدت بالأمس ...
وبالرغم من تعدد جنسياتها وأشكالها وألوانها وجودتها وأسعارها، 
إلا أنها كانت تطرح نفس التساؤل اليومي ...
من صنعنا ... ؟ كيف أوجدنا ...؟  
وما هو  شكله ... ؟  
قالت ساعة يد صغيرة :
لا بدَّ أن ساعة كبيرة قامت بهذا الأمر ! فساعةٌ صغيرة لا تستطيع فعل ذلك ...
ردت مجموعة من ساعات متثائباتٍ يُنازعن غفوتهن في زاوية المتجر،  أنت على حق ...
قالت ساعة سويسرية باهظة الثمن ، بلهجة متكبرة :
ليست كبيرة فحسب !  ... أعتقد أن ساعة كبيرة مرصعةٌ بالجواهر و لا تُقدر بثمن ، هي من قامت بِصُنعنا فلا شك أن من صنعنا ثمنه يساوي أضعاف ثمننا مجتمعين !
لا أعتقد ذلك ... هذا ما قالته ساعةُ الحائط ...
أنا على يقين تام أنني من نسل الصانع الأساسي ! 
إن ساعة الحائط ألاولى العظيمة هي  التي صنعتنا و جاءت بنا جميعاً الى هذا المكان...
ردت ساعة أخرى صُنعت بغاية الدقة والتعقيد ؛ يا لكي من ساعة حمقاء ...
وأردفت بلهجة غاضبة !
ما أنتِ إلا صندوق خشبي متهالك ...
كيف تجرؤين على قول أن من صنعنا هم أجدادك ... ؟ 
لا بد أن من صنعنا هم أجدادي ... 
انا متأكدة أن الصانع الأول هو ساعة متناهية الدقة تعجزُ أي ساعة عن فك شيفرتها ....
قالت ساعة أُخرى بسيطة الصنع ، رخيصة الثمن :
لا أعتقد ان أحداً صنعنا ، 
أنا أؤمن أن من أوجدنا هنا هو هذه الغرفة الَّتي نعيش فيها  وسيأتي يوم نموت فيه كما حصل لأسلافنا ...
قالت صديقتها : 

ولكن اذا كانت هذه الغرفة من صنعتنا ! فمن هو الذي صنع هذه الغرفة ؟
أجابت الساعة الرخيصة :
الصدفة ، نعم إنها الصدفة أعتقد انه وفي عهد قديم حصل انفجارٌ هائل أدى الى تناثر مكونات هذه الغرفة فانبثقت مكوناتنا من أجزائها ...  وبسبب قوة خفية وبمحض الصدفة ، تجمعت أجزاء الغرفة وتجمعت مكوناتنا ومن ثم تطورنا شيئاً فشيئاً حتى أصبحنا على مانحن عليه اليوم ...
رددت المتثائِبات : أنت على حق وعدن لغفوتهن ...
 قالت ساعة أُخرى : لا أوافقك الرأي !  لا مكان للصدفة في وجودنا ...
لا بد أن تكون ساعة عظيمة صنعتنا وأورثتنا تلك الدقة المتناهية لضبط الوقت !
الوقت ! ... لحظة ... وجدتها !
نعم الوقت هو من صنعنا !
قالت ساعة بندول تقف في زاوية المتجر : ياله من استنتاج ساذج !  وكيف للوقت ان يصنعنا ونحن من نتحكم به ونشير اليه ، هذا مستحيل ! 
وكيف للصدفة ان توجدنا ؟!
ان من صنعنا ساعة خارقة الذكاء ، 
وأضافت قائلةً وبكل ثقة ... : 
نعم ، خارقة الذكاء ، لأنها صنعتنا بطريقة عجيبة ! حيث أننا نعمل طوال الوقت  وبدون توقف ، بدقةٍ وإتزان و بطريقة ميكانيكية كهربائية غاية في الإعجاز  ... لدرجة اعتقادنا لوهلة أن كل ما نحن فيه هو عملية تلقائية لا تحتاج لصانع ولا تحتاج لأحد يرعاها !
ولكن هيهات هيهات ...  !!!  فرغم التلقائية في عملنا إلا أننا لا نساوي شيئاً دون صانعنا ، فبمجرد مرضنا واضطراب أمعائنا أو نفاد بطارياتنا ، تنقطع بنا السبل ولا نجد حبلاً للنجاة إلا حبلاً من صانعنا ... 
وما تنوع اشكالنا وألواننا وطريقة تعبيرنا عن الوقت إلا إعجاز في منتهى الدقة والإتقان لا يدع مجالاً للشك أن التلقائية في صنعنا وتطورنا ما هي إلا ضرب من الخيال والسذاجة ...
ضربت ساعة منبه جرسها ،
فاستفاقت المتثائبات من غفوتهن فزعات وصرخن : يالك من ساعة مزعجة ألا تتركينا نائمين !
قالت ساعة المنبه بكل ثقةٍ ورزانة ... : 
استمعو لي جيداً ... 
أنا أعلم ما لا تعلمون ...
سأروي لكم ما أخبرني به جدي ...
كان جدي يتميز عن باقي ساعات عصره 
أنه كان ذو حسٍ أعطاه القدرة على التواصل مع صانعه ...
ماذا تقولين ! رأى الصانع ؟ ياله من محظوظ ...
أله ثلاث عقارب ام اكثر ؟!
أكان رقمياً ... ؟!
كم حجمه ؟ هل كان مرصعاً بالجواهر ؟
هل يتحكم بأربعة وعشرين ساعة ام أكثر ...؟
هل يحتاج لبطارية لكي يعمل ؟
لا بد ان بطاريته بحجم هذه الغرفة !!!
على رسلكم،  ليس هذا ولا ذاك ، ولم أقل أن جدي رآه ، فلا تستطيع أي ساعة رؤية صانعنا ولكن أقول أنه استطاع أن يتواصل معه فقط وعرف عنه الكثير ... 
 فلقد أخبرني أن من صنعه شيء عظيم 
ليس كمثله شيء بيننا ...
لا يحتاج لبطاريةٍ لكي يعمل ، وليس بِمعدن وله قدرات عظيمة في صنع الساعات ...
وله شكل لا نستطيع تخيله إطلاقاً فقدراته وقوته وعلمه يساوي آلاف الساعات من الوقت وما علمنا إلا بثانية من علمه ...
يالكي من مجنونة وما جدك إلا ساعة  خَرِفة !!! 
هل تريدي ان تقنعينا انه لو كان هناك من صنعنا ، فإنه ليس بساعة مثلنا ؟! 
لن نُصدِّق حتى نرى ذلك بأعيننا ...
لن تستطيعو ذلك ! 
جدي أخبرني أن الصانع هو من يختار من يتواصل معه دون أن يروه  ،  لذلك فإن عدد قليل من الساعات على مر العصور تواصلوا مع الصانع بطريقة خاصة لا نستطيعها ... 
وما أريد أن أقوله لكم أيضاً ...
أن من صنعنا ، هو نفسه من صنع هذه الغرفة الَّتي نعيش فيها بل و صنع أشياءً أعظم شأناً منَّا  ، فقد صنع شيئاً يُسمى طائرات مُعلّقٌة في الهواء ويستخدمها صانعنا للتنقل من مكان لأخر بوقت قياسي في المكان الذي يعيش فيه ...
فما هذه الغرفة إلا جزء لا يكاد يُذكر من عالمه  ...
وما هذا إلا مثال واحد على ما يصنع ، فهو عظيم يصنع ما نعلم وما لا نعلم ... !
فكفو عن هذه التساؤلات اليومية  ...
واحتفظو بما تبقى لديكم من بطارياتكم 
لتستغلوها فيما صُنعتم من أجله ..
فقد سئمت من اجتماعكم اليومي الممل ... ولقد أوضحت لكم الأمر ؛
فجدي كان معروفاً بصدقه وأمانته ،
وأنا أومن بما قاله لي ،
لذلك أنا أعيش براحة وسعادة وطمأنينة ،
ولا أفكر بما تفكرون به يومياً ، إنما التفت لعملي ، وأبذل ما بوسعي لأقدم أفضل ما لدي لأحقق الهدف الذي صُنِعت لأجله ...

وكما ترون أنا أعيش هنا منذ سنين طويلة ...
وصانعي يرعاني ويهتم بي على أكمل وجه ، ذلك أنني أمنت بما قاله لي جدي ،
فاشتغلت بما صُنعت لأجله وها أنا اتمتع بصحة جيدة وحياة رائعة انا وأصدقائي الَّذين صدقوني  ...  أنظروا الى تلك المجموعة الهادئة المطمئنة من الساعات في زاوية المتجر ...
لقد صدقوني وها هم يعيشون بسلام وآمان تحت رعاية صانعنا ...
أما من كذبني فقد نفِدت بطارياتهم في التفكير بما تفكرون به يومياً حتى انتهت حياتهم وأُلقوا في القمامة أو استُخدمت بعض أعضائهم لخدمتنا ...
قالت المتثائِبات بلهجة حاقدة : 
أنت ستموتين أيضاً وسيُلقى بك في القمامة ... وستستخدم أعضاؤك لخدمة غيرك من الساعات !!!
أتريدين منَّا أن نترك راحتنا ولهونا وسباتنا لنعمل ! ثم ماذا ؟ 
لنلتقي سويةً في سلة القمامة ...؟!
ضحكت ساعة المنبه حتى اهتز جسدها وقالت : 
هذا ظنكم أيها المكذبون ! 
إن صانعنا عَهِد إلينا أنه من يؤدي عمله على أكمل وجه سيأتي عليه يوم عندما يُصبح كهلاً أن يوضع في مكانٍ عظيم رائع الجمال ليس كهذه الغرفة الدنيئة !
بل هو مكان مختلف تماماً ، لا عمل فيه بل راحة واسترخاء، في حجرة عرض زجاجية مستقلة لكل واحد منّا إلى الأبد  ... وسنحصل على اهتمام كبير وشهرة منقطعة النظير ... وستكون أسعارنا خيالية ... وأجمل ما في الأمر أننا سنستطيع رؤية صانعنا !
قالت ساعة بإستهزاء ... :
يالكِ من مجنونة و انا مستمتعةٌ بسماع قصتك الخيالية وما هو اسم ذلك  المكان الخيالي العجيب ؟! 

أخبرني جدي ان اسمه المتحف ،
كم أتحرَّق شوقاً للذهاب اليه لأ قابل جدِّي ...
قالت ساعة الحائط بإستهزاء و بلهجة استنكارية : 
وهل أخبرك جدك ما هو اسم صانعنا الخيالي  ؟ 
نعم ، أخبرني ان اسمه الإنسان ، 
و هو ليس بصانع واحد بل هم كثيرون في الظاهر ...
ولكن حقيقة الأمر أن الإنسان يستمد مصدر قدرته وإبداعه من شيء يُسمى " العقل البشري " 
قالت ساعة رقمية لا بدّ ان ما تتحدثين عنه شاشة كبيرة تعمل باللمس وفيها أرقامٌ لا تُحصى ... فجيلنا الأكثر تطوراً وذكاءاً بين أقراننا من الساعات !
ولكن لدي تساؤل ... من صنع صانعنا ؟
الذي أسميتِه الإنسان ؟!
قالت ساعة المنبه بعد تنهيدة عميقة ...
هذا السؤال الذي سأطرحه عليه عندما أراه في المتحف !

ولله المثل الأعلى ...

د. أنور القبالي