أهمية اللغة العربية في فهم القرآن الكريم وتفسيره
عبد الله علي محمد العبدلي
كان العرب قبل نزول القرآن يتكلمون العربية فصيحة، سليمة من اللحن والاختلال، وكان يتكلم بها من عاش بينهم واستقر في ربوعهم بالسليقة والوراثة والعادة المستمرة، ونزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان فيه ما في هذه اللغة من الظواهر اللغوية التي بلغ بها نهاية البلاغة، قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103].
فأقام حجته بأن كتابه عربي في كل آية ذكرناها، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه جل ثناؤه كلَّ لسان غير لسان العرب([1]).
وقال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193 - 195]، أي: هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بينا واضحا ظاهرا، قاطعا للعذر، مقيما للحجة، دليلا إلى المحجة([2]).
وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2]، أي: "إنا أنزلنا هذا الكتاب المبين، قرآنًا عربيًّا على العرب، لأن لسانهم وكلامهم عربي، فأنزلنا هذا الكتاب بلسانهم ليعقلوه ويفقهوا منه"([3]).
وقال أيضًا: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3].
أي: كتاب بيّنت آياته بيانا شافيا، وأوضحت معانيه، وأحكمت أحكامه، وقد أنزلناه بلغة العرب، ليسهل فهمه، فمعانيه مفصّلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، وإنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماء الراسخون الذين يعلمون أن القرآن منزل من عند الله، ويعلمون معانيه، لنزوله بلغتهم([4]).
ولقد أثر القرآن الكريم في العرب حينما سمعوه، لكون العربية سجية من سجاياهم، فكلما كان الإنسان ذا بصيرة وعلم في اللغة العربية كان أكثر فهما للقرآن الكريم، ومن كانت بضاعته في اللغة العربية مزجاة فليس له من فهم القرآن إلا حفظ الروايات ونقل الأقوال عن أصحابها.
واعتبر العلماء رحمهم الله أن خدمة اللغة العربية والتأليف فيها خدمة للقرآن الكريم، والدفاع عنها تعد دفاعا عن حمى القرآن الكريم.
"والتفاوت في فهم القرآن الكريم واضحا منذ عهد نزول القرآن فيمن عاصر نزوله إلى وقتنا الحاضر، فكل من كان بلغة العرب أعرف كانت معرفته بمعاني نصوص الكتاب والسنة أكثر، وفهمه لمدولاتها أرسخ وأتقن.
"ولقد كان العرب في عهد نزول القرآن على جانب كبير من الإحاطة بلغتهم، ومعرفة أساليبها وإدراك حقائقها، فكانوا بذلك أقدر الناس على فهم القرآن وإدراك معانيه واستيعاب مراميه، ومن جاء بعدهم كان أقل درجة أو درجات لبعدهم عن صفاء اللغة العربية، وذلك لما عم الإسلام الأرض واختلط العرب بالعجم وتولد منهم الجيل الذي أصبح يبتعد رويدا رويدا كلما مر عليه الزمن، عن اللغة الأم وصفائها.
فقد كان الصحابة أعلى قدرا في فهم القرآن وإدراك حقائقه من التابعين، والتابعون كانوا أعلى قدرا ممن بعدهم، وهكذا كلما كان البعد عن صفاء اللغة، وكان البعد أشد في إدراك معاني القرآن وفهم مقاصده وأحكامه وأسراره"([5]).
وتكمن أهمية اللغة العربية في فهم القرآن وتفسيره من خلال التالي:
أولا : أن "من أسباب الخطأ في التفسير، ومن عوامل الانحراف في فهم الآيات القرآنية، ومن دواعي ظهور الفهومات الزائغة للنصوص الشرعية، الضعف في اللسان العربي قراءة، وكتابة، وفهما، وتطبيقا، والجهل بقواعده من التصريف، والنحو، والاشتقاق، والإعراب، والمعاني، والبيان، وغير ذلك من مصطلحات اللغة وأصولها، ثم التعامل مع هذه النصوص من خلال هذه العجمة. وطرأ هذا الضعف اللساني والجهل اللغوي؛ بسبب شيوع العجمة وانتشارها، وذيوع اللحن وظهوره، ودخول الأمم العجمية في الإسلام، وقلة العلم بأصول اللغة ومدلولاتها، وندرة الاهتمام بالحفاظ عليها"([6]).
ثانيا: تعد معرفة اللغة العربية من أهم الأدوات لفهم القرآن الكريم وتفسيره، إذ القرآن نزل باللسان العربي، فلا شك أنه لا يصح فهمه وتفسيره إلا عن طريق ذات اللسان الذي نزل به الروح الأمين على قلب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقد أردك العلماء أهمية اللغة العربية في فهم القرآن وتفسيره، وحذروا من تفسير كتاب الله من غير علم بالعربية.
قال مجاهد بن جبر: "لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم في كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب"([7]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن الله تعالى لما أنزل كتابه باللسان العربي، وجعل رسوله مبلغا عنه للكتاب والحكمة بلسانه العربي، وجعل السابقين إلى هذا الدين متكلمين به؛ لم يكن سبيل إلى ضبط الدين ومعرفته إلا بضبط اللسان، وصارت معرفته من الدين، وصار اعتبار التكلم به أسهل على أهل الدين في معرفة دين الله، وأقرب إلى إقامة شعائر الدين، وأقرب إلى مشابهتهم للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، في جميع أمورهم... واللسان تقارنه أمور أخرى: من العلوم والأخلاق، فإن العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله وفيما يكرهه، فلهذا أيضا جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين الأولين، في أقوالهم وأعمالهم، وكراهة الخروج عنها إلى غيرها من غير حاجة"([8]).
ويقول الشاطبي: القرآن نزل بلسان العرب على الجملة، فطلب فهمه إنما يكون من هذا الطريق خاصة، لأن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [يوسف: 2].
وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء: 195].
وقال: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ}[النحل: 103] .
وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت: 44] .
إلى غير ذلك مما يدل على أنه عربي وبلسان العرب، لا أنه أعجمي ولا بلسان العجم، فمن أراد تفهمه، فمن جهة لسان العرب يفهم، ولا سبيل إلى تطلب فهمه من غير هذه الجهة([9]).
ثالثا: اللغة العربية المطلوب تعلمها لفهم القرآن الكريم وتفسيره: معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم، قال ابن عاشور: أما العربية فالمراد منها معرفة مقاصد العرب من كلامهم وأدب لغتهم...
ونعني بقواعد العربية مجموع علوم اللسان العربي، وهي: متن اللغة، والتصريف، والنحو، والمعاني، والبيان. ومن وراء ذلك استعمال العرب المتبع من أساليبهم في خطبهم وأشعارهم وتراكيب بلغائهم، ويدخل في ذلك ما يجري مجرى التمثيل والاستئناس للتفسير من أفهام أهل اللسان أنفسهم لمعاني آيات غير واضحة الدلالة عند المولدين"([10]).
ويقول الشاطبي: "ولا أعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا اللغة، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلقة باللسان، بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معاني كيف تصورت، ما عدا الغريب، والتصريف المسمى بالفعل، وما يتعلق بالشعر من حيث هو الشعر كالعروض والقافية، فإن هذا غير مفتقر إليه هنا"([11]).
تنبيه: لا بد للمفسر من معرفة مصادر وجوانب أخرى يعتمد عليها في تفسيره غير اللغة وحدها، كالسنة النبوية، وأسباب النزول، وقصص الآي، والسياق القرآني، والقرائن التي حفت بالخطاب حال التنزيل، وغيرها من المصادر التي لا يمكن أخذها عن طريق اللغة، ولذلك خُطِّئَ قول من أهمل هذه المصادر والجوانب، واعتمد على مجرد اللغة فحسب، إذ قد يكون المدلول اللغوي غير مراد في الآية([12]).
قال القرطبي: "من لم يحكم ظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه، ودخل في زمرة من فسر القرآن بالرأي، والنقل والسماع لا بدله منه في ظاهر التفسير أولا ليتقي به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط"([13]).
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: "وينبغي أن يتفطن ههنا لأمر لا بد منه وهو أنه لا يجوز أن يحمل كلام الله عز وجل ويفسر بمجرد الاحتمال النحوي الإعرابي الذي يحتمله تركيب الكلام ويكون الكلام به له معنى ما فإن هذا مقام غلط فيه أكثر المعربين للقرآن...فتدبر هذه القاعدة ولتكن منك على بال فإنك تنتفع بها في معرفة ضعف كثير من أقوال المفسرين وزيفها وتقطع أنها ليست مراد المتكلم تعالى بكلامه ...فهذا أصل من أصوله بل هو أهم أصوله"([14]).
فالرواية هي الأصل، وقواعد اللغة العربية تبع لها لا العكس.
وبهذا يتبين لنا أهمية اللغة العربية للقرآن الكريم، وأهميتها في فهمه وتفسيره، وأنها لا غنى عنها لمريد التفسير، مع الحرص على عدم الاعتماد على مجرد اللغة في فهم كلام الله تعالى.
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا، ربنا علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، والحمد لله رب العالمين.
__________
([1]) الرسالة للشافعي (1/47).
([2]) تفسير ابن كثير (6/162).
([3]) تفسير الطبري (15/551).
([4]) التفسير المنير، للزحيلي (24/185).
([5]) أصول التفسير وقواعده، تأليف: خالد عبد الرحمن العك، ص: (138).
([6]) أسباب الخطأ في التفسير، دراسة تأصيلية، للدكتور: طاهر محمود يعقوب (2/988).
([7]) الإتقان في علوم القرآن (4/213).
([8]) اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/449-450).
([9]) الموافقات (2/102).
([10]) التحرير والتنوير (1/18).
([11]) الموافقات (5/52).
([12]) انظر: التفسير اللغوي، للطيار، ص: (50).
([13]) تفسير القرطبي (1/34).
([14]) بدائع الفوائد (3/ 27-28).